الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: " من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمراً فليستقل منه أو ليستكثر " صريح في التحريم ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير وليس إلينا وضع المقادير بل يستدرك ذلك بالتوقيف. وقد ورد في الحديث: " استغنوا بغنى الله تعالى عن غيره " قالوا: وما هو قال: غداء يوم وعشاء ليلة ". وفي حديث آخر: " من سأل وله خمسون درهماً أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافاً " وورد في لفظ آخر " أربعون درهماً ". ومهما اختلفت التقديرات وصحت الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة فإن الحق في نفسه لا يكون إلا واحداً والتقدير ممتنع وغاية الممكن فيه تقريب ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال المحتاجين فنقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حق لابن آدم إلا في ثلاث: طعام يقيم صلبه وثوب يواري به عورته وبيت يسكنه فما زاد فهو حساب ". فلنجعل هذه الثلاث أصلاً في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير والأوقات فأما الأجناس فهي هذه الثلاث ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي وكذلك ما يجري مجراه من المهمات ويلحق بنفسه عياله وولده وكل من تحت كفالته كالدابة أيضاً. وأما المقادير فالثوب يراعى فيه ما يليق بذوي الدين وهو ثوب واحد وقميص ومنديل وسراويل ومداس وأما الثاني من كل جنس فهو مستغن عنه وليقس على هذا أثاث البيت جميعاً ولا ينبغي أن يطلب رقة الثياب وكون الأواني من النحاس والصفر فيما يكفي فيه الخزف فإن ذلك مستغنى عنه فيقتصر من العدد على واحد ومن النوع على أخس أجناسه ما لم يكن في غاية البعد عن العادة. وأما الطعام فقدره في اليوم مد وهو ما قدره الشرع ونوعه ما يقتات ولو كان من الشعير والأدم على الدوام فضلة وقطعة بالكلية إضرار ففي طلبه في بعض الأحوال رخصة وأما المسكن فأقله ما يجزئ من حيث المقدار وذلك من غير زينة فأما السؤال للزينة والتوسع فهو سؤال عن ظهر غنى وأما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه في الحال من طعام يوم وليلة وثوب يلبسه ومأوى يكنه فلا شك فيه فأما سؤاله للمستقبل فهذا له ثلاث درجات: إحداها ما يحتاج إليه في غد والثانية: ما يحتاج إليه في أربعين يوماً أو خمسين يوماً والثالثة: ما يحتاج إليه في السنة. ولنقطع بأن من معه ما يكفيه له ولعياله إن كان له عيال لسنة فسؤاله حرام فإن ذلك غاية الغنى وعليه ينزل التقدير بخمسين درهماً في الحديث فإن خمسة دنانير تكفي المنفرد في السنة إذا اقتصد أما المعيل فربما لا يكفيه ذلك وإن كان يحتاج إليه قبل السنة فإن كان قادراً على السؤال ولا تفوته فرصته فلا يحل له لسؤال لأنه مستغن في الحال وربما لا يعيش إلى الغد فيكون قد سأل ما لا يحتاج فيكفيه غداء يوم وعشاء ليلة وعليه ينزل الخبر الذي ورد في التقدير بهذا القدر وإن كان يفوته فرصة السؤال ولا يجد من يعطيه لو أخر فيباح له السؤال لأن أمل البقاء سنة غير بعيد فهو بتأخير السؤال خائف أن يبقى مضطراً عاجزاً عما يعينه فإن كان خوف العجز عن السؤال في المستقبل ضعيفاً وكان ما لأجله السؤال خارجاً عن محل الضرورة لم يخل سؤاله عن كراهية وتكون كراهته بحسب درجات ضعف الاضطرار وخوف الفوت وتراخي المدة التي فيها يحتاج إلى السؤال وكل ذلك لا يقبل الضبط وهو منوط باجتهاد العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى فيستفتي فيه قلبه ويعمل به إن سالكاً طريق الآخرة وكل من كان يقينه أقوى وثقته بمجيء الرزق في المستقبل أتم وقناعته بقوت الوقت أظهر فدرجته عند الله تعالى أعلى فلا يكون خوف الاستقبال وقد آتاك الله قوت يومك لك ولعيالك إلا من ضعف اليقين والإصغاء إلىتخويف الشيطان وقد قال تعالى: " فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين " وقال عز وجل: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " والسؤال من الفحشاء التي أبيحت بالضرورة وحال من يسأل لحاجة متراخية عن يومه وإن كان مما يحتاج إليه في السنة أشد من حال من ملك مالاً موروثاً وادخره لحاجة وراء السنة وكلاهما مباحان في الفتوى الظاهرة ولكنهما صادران عن حب الدنيا وطول الأمل وعدم الثقة بفضل الله وهذه الخصلة من أمهات المهلكات نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه. كان بشر رحمه الله يقول: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل وإن أعطي لا يأخذ فهذا مع الروحانيين في عليين وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ فهذا مع المقربين في جنات الفردوس وفقير يسأل عند الحاجة فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين. فإذن اتفق كلهم على ذم السؤال وعلى أنه مع الفاقة يحط المرتبة والدرجة. قال شقيق البلخي لإبراهيم بن أدهم حين قدم عليه من خراسان: كيف تركت الفقراء من أصحابك قال: تركتهم إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا - وظن أنه بترك السؤال قد أثنى عليه غاية الثناء - فقال شقيق: هكذا تركت كلاب بلخ عندنا فقال إبراهيم: فكيف الفقراء عندك يا أبا إسحاق فقال: الفقراء عندنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا فقبل رأسه وقال: صدقت يا أستاذ. فإذن درجات أرباب الأحوال في الرضا والصبر والشكر والسؤال كثيرة فلا بد لسالك طريق الآخرة من معرفتها ومعرفة انقسامها واختلاف درجاتها فإنه إذا لم يعلم لم يقدر على الرقي من حضيضها إلى قلاعها ومن أسفل سافلين إلى أعلى عليين وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم رد إلى أسفل سافلين ثم أمر أن يترقى إلى أعلى عليين ومن لا يميز بين السفل والعلو لا يقدر على الرقي قطعاً وإنما الشك فيمن عرف ذلك فإنه ربما لا يقدر عليه وأرباب الأحوال قد تغلبهم حالة تقتضي أن يكون السؤال مزيداً لهم في درجاتهم ولكن بالإضافة إلى حالهم فإن مثل هذه الأعمال بالنيات وذلك كما روي أن بعضهم رأى أبا إسحاق النوري رحمه الله يمد يده ويسأل الناس في بعض المواضع قال: فاستعظمت ذلك واستقبحته له فأتيت الجنيد رحمه الله فأخبرته بذلك فقال: لا يعظم هذا عليك فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم وإنما سألهم ليثيبهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرهم وكأنه أشار به إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " يد المعطى هي العليا " فقال بعضهم: يد المعطى هي يد الآخذ للمال لأنه يعطى الثواب والقدر له لا لما يأخذه ثم قال الجنيد: هات الميزان فوزن مائة درهم ثم قبضه قبضة فألقاها على المائة ثم قال: احملها إليه فقلت في نفسي: إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره فكيف خلط به مجهولاً وهو رجل حكيم فذهبت بالصرة إلى النوري فقال: هات الميزان: فوزن مائة درهم وقال: ردها عليه وقل له: أنا لا أقبل منك أنت شيئاً وأخذ ما زاد على المائة قال: فزاد تعجبي فسألته فقال: الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه: وزن المائة لنفسه طلباً لثواب الآخرة وطرح عليها قبضة بلا وزن لله عز وجل فأخذت ما كان لله تبارك وتعالى ورددت ما جعله لنفسه. قال: فرددتها إلى الجنيد فبكى وقال: أخذ ماله ورد مالنا الله المستعان فانظر الآن كيف صفت قلوبهم وأحوالهم وكيف خلصت لله أعمالهم حتى كان يشاهد كل واحد منهم قلب صاحبه من غير مناطقة باللسان ولكن بتشاهد القلوب وتناجي الأسرار وذلك نتيجة أكل الحلال وخلو القلب عن حب الدنيا والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة فمن أنكر ذلك قبل تجربة طريقه فهو جاهل كمن ينكر مثلاً كون الدواء مسهلاً قبل شربه ومن أنكره بعد أن طال اجتهاده حتى بذل كنه مجهوده ولم يصل فأنكر ذلك لغيره كان كمن شرب المسهل فلم يؤثر في حقه خاصة لعلة في باطنه فأخذ ينكر كون الدواء مسهلاً وهذا وإن كان في الجهل دون الأول ولكنه ليس خالياً عن حظ وافٍ من الجهل بل البصير أحد رجلين: إما رجل سالك الطريق فظهر له مثل ما ظهر لهم فهو صاحب الذوق والمعرفة وقد وصل إلى عين اليقين وإما رجل لم يسلك الطريق أو سلك ولم يصل ولكنه آمن بذلك وصدق به فهو صاحب علم اليقين وإن لم يكن واصلاً إلى عين اليقين. ولعلم اليقين أيضاً رتبة وإن كان دون عين اليقين ومن خلا عن علم اليقين فهو خارج عن زمرة المؤمنين ويحشر يوم القيامة في زمرة الجاحدين المستكبرين الذين هم قتلى القلوب الضعيفة وأتباع الشياطين. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم القائلين: " آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ". الشطر الثاني من الكتاب في الزهد وفيه بيان حقيقة الزهد وبيان فضيلة الزهد وأقسامه وبيان تفصيل الزهد في المطعم والملبس والمسكن والأثاث وضروب المعيشة وبيان علامة الزهد. اعلم أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال إذ به يظهر الحال الباطن فليس القول مراداً لعينه وإن لم يكن صادراً عن حال سمي إسلاماً ولم يسم إيماناً فالعلم هو السبب في حال يجري مجرى المثمر والعمل يجري من الحال مجرى الثمرة فلنذكر الحال مع كلا طرفيه من العلم والعمل: أما الحال فنعني بها ما يسمى زهداً وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمى زهداً وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحباً فإذن يستدعي حال الزهد مرغوباً عنه ومرغوباً فيه هو خير من المرغوب عنه وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضاً مرغوباً فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً إذ تارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهداً وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيراً من المرغوب حتى تغلب هذه الرغبة فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشتري عنده خير من البيع فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهداً فيه وبالإضافة إلى العوض عنه رغبة فيه وحباً ولذلك قال الله تعالى: " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين " معناه باعوه فقد يطلق الشراء بمعنى البيع ووصف أخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف فباعوه طمعاً في العوض فإذن كل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضاً زاهد ولكن في الآخرة ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن يزهد في الدنيا كما خصص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصة وإن كان هو للميل في وضع اللسان ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لن يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب بغير الأحب محال والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى حتى الفراديس ولا يحب إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق والذي يرغب عن كل حظ ينال في الدنيا ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة بل طمع في الحور والقصور والأنهار والفواكه فهو أيضاً زاهد ولكنه دون الأول والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض كالذي يترك المال دون الجاه أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في الزينة فلا يستحق اسم الزاهد مطلقاً ودرجته في الزهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصي في التائبين وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة فإن التوبة عبارة عن ترك المحظورات والزهد عبارة عن ترك المباحات التي هي حظ النفس ولا يبعد أن يقدر على ترك بعض المباحات دون بعض كما لا يبعد ذلك في المحظورات والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمى زاهداً وإن كان قد زهد في المحظور وانصرف عنه ولكن العادة تخصص هذا الاسم بترك المباحات فإذن الزهد عبارة عن رغبته عن الدنيا عدولاً إلى الآخرة أو عن غير الله تعالى عدولاً إلى الله تعالى وهي الدرجة العليا. وكما يشترط في المرغوب فيه أن يكون خيراً عنده فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدوراً عليه فإن ترك ما لا يقدر عليه محال وبالترك يتبين زوال الرغبة ولذلك قيل لابن المبارك: يا زاهد فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها وأما أنا ففيما ذا زهدت. وأما العلم الذي هو مثمر لهذه الحال فهو العلم بكون المتروك حقيراً بالإضافة إلى المأخوذ كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه وما لم يتحقق هذا العلم لم يتصور أن تزول الرغبة عن المبيع فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى أي لذاتها خير في أنفسها وأبقى كما تكون الجواهر خيراً وأبقى من الثلج مثلاً. ولا يعسر على مالك الثلج بيعه بالجواهر واللآلئ فهكذا مثال الدنيا والآخرة فالدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له فبقدر قوة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع والمعاملة حتى إن من قوي يقينه يبيع نفسه وماله كما قال الله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " ثم بين أن صفقتهم رابحة فقال تعالى: " فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به " فليس يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا القدر: وهو أن الآخرة خير وأبقى وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إما لضعف علمه ويقينه وإما لاستيلاء الشهوة في الحال عليه وكونه مقهوراً في يد الشيطان وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان في التسويف يوماً بعد يوم إلى أن يختطفه الموت ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت: وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى: " قل متاع الدنيا قليل " وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عز وجل: " وقال الذين أوتوا ويلكم ثواب الله خير " فنبه على أن العلم بنفاسة الجوهر هو المرغب عن عوضه ولما لم يتصور الزهد إلا بمعارضةورغبة عن المحبوب في أحب منه قال رجل في دعائه: اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقل هكذا " ولكن قل: أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك " وهذا لأن الله تعالى يراها حقيرة كما هي وكل مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقير والعبد يراها حقيرة في نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له ولا يتصور أن يرى بائع الفرس وإن رغب عنه فرسه كما يرى الحشرات الأرض مثلاً لأنه مستغن عن الحشرات أصلاً وليس مستغنياً عن الفرس والله تعالى غني بذاته عن كل ما سواه فيرى الكل في درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله ويراه متفاوتاً بالإضافة إلى غيره والزاهد هو الذي يرى تفاوته بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره وأما العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك واحد لأنه بيع ومعاملة واستبدال للذي هو خير بالذي هو أدنى فكما أن العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه من اليد وأخذ العوض فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها فيخرج من القلب حبها ويدخل حب الطاعات ويخرج من العين واليد ما أخرجه من القلب ويوظف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف الطاعات وإلا كان كمن سلم المبيع ولم يأخذ الثمن فإذا وفى شرط الجانبين في الآخذ والترك فليستبشر ببيعه الذي بايع به فإن الذي بايعه بهذا البيع وفي بالعهد فمن سلم حاضراً في غائب وسلم الحاضر وأخذ يسعى في طلب الغائب سلم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد وما دام ممسكاً للدنيا لا يصح زهده أصلاً ولذلك لم يصف الله تعالى أخوة يوسف بالزهد في بنيامين وإن كانوا قد قالوا: " ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " وعزموا على إبعاده كما عزموا على يوسف حتى تشفع فيه أحدهم فترك ولا وصفه أيضاً بالزهد في يوسف عند العزم على إخراجه بل عند التسليم والبيع فعلامة الرغبة الإمساك وعلامة الزهد الإخراج: فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط ولست زاهداً مطلقاً وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصور منك الزهد لأن ما لا يقدر عليه لا يقوى على تركه وربما يستهويك الشيطان بغروره ويخيل إليك أن الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهد فيها فلا ينبغي أن تتدلى بحبل غروره دون أن تستوثق وتستظهر بموثق غليظ من الله فإنك إذا لم تجرب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها فكم من ظان بنفسه كراهة المعاصي عند تعذرها فلما تيسرت له أسبابه من غير مكدر ولا خوف من الخلق وقع فيها وإذا كان هذا غرور النفس في المحظورات فإياك أن تثق بوعدها في المباحات والموثق الغليظ الذي تأخذه عليها وأن تجربها مرة بعد مرة في حال القدرة فإذا وفت بما وعدت على الدوام مع انتفاء الصوارف والأعذار ظاهراً وباطناً فلا بأس أن تثق بها وثوقاً ما ولكن تكون من تغيرها أيضاً على حذر فإنها سريعة النقض للعهد قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما ترك فقط وذلك عند القدرة. قال ابن أبي ليلى لابن شبرمة: ألا ترى إلى ابن الحائك هذا لا نفتي في مسألة إلا رد علينا - يعني أبا حنيفة فقال ابن شبرمة: لا أدري أهو ابن الحائك أم ما هو لكن اعلم أن الدنيا غدت إليه فهرب منها وهربت منا فطلبناها وكذلك قال جميع المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله تعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم قال ابن مسعود رحمه الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت منهم " - يعني من القليل - قال: وما عرفت فينا من يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ". واعلم أن ليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء والفتوة وعلى سبيل استمالة القلوب وعلى سبيل الطمع فذلك كله من محاسن العادات ولكن لا مدخل لشيء منه في العبادات وإنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة فأما كل نوع من الترك فإنه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة فذلك قد يكون مروءة وفتوة وسخاء وحسن خلق ولكن لا يكون زهداً إذ حسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العاجلة وهي ألذ وأهنأ من المال وكما أن ترك المال على سبيل السلم طمعاً في العوض ليس من الزهد فكذلك تركه طمعاً في الذكر والثناء والاشتهار بالفتوة والسخاء واستثقالاً له لما في حفظ المال من المشقة والعناء. والحاجة إلى التذلل للسلاطين والأغنياء ليس من الزهد أصلاً بل هو استعجال حظ آخر للنفس بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس فتركها خوفاً من أن يأنس بها فيكون آنساً بغير الله ومحباً لما سوى الله ويكون مشركاً في حب الله تعالى غيره. أو تركها طمعاً في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعاً في أشربة الجنة وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعاً في الحور العين وترك التفرج في البساتين طمعاً في بساتين الجنة وأشجارها وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعاً في زينة الجنة وترك المطاعم اللذيذة طمعاً في فواكه الجنة وخوفاً من أن يقال له: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " فآثر في جميع ذلك ما وعد على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى وأن ما سوى هذا فمعاملات دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلاً. قال الله تعالى: " فخرج على قومه في زينته" إلى قوله تعالى " وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن " فنسب الزهد إلى العلماء ووصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء وقال تعالى: " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " وجاء في التفسير على الزهد في الدنيا. وقال عز وجل: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ". قيل: معناه أيهم أزهد فيها فوصف الزهد بأنه من أحسن الأعمال. وقال تعالى: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وقال تعالى: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ". وقال تعالى: " الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة " فوصف الكفار بذلك فمفهومه أن المؤمن هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا. وأما الأخبار: فما ورد منها في ذم الدنيا كثير وقد أوردنا بعضها في كتاب ذم الدنيا مع ربع المهلكات إذ حب الدنيا من المهلكات ونحن الآن نقتصر على فضيلة بغض الدنيا فإنه من المنجيات وهو المعني بالزهد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره وفرق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له همه وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم العبد وقد أعطي صمتاً وزهداً في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة ". وقال تعالى: " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " ولذلك قيل من زهد في الدنيا أربعين يوماً أجرى الله ينابيع الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه. وعن بعض الصحابة أنه قال: قلنا يا رسول الله أي الناس خير قال: " كل مؤمن محموم القلب صدوق اللسان " قلنا يا رسول الله وما محموم القلب قال: " التقي النقي الذي لا غل فيه ولا غش ولا بغي ولا حسد " قلنا: يا رسول الله فمن على أثره قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة " ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أردت أن يحبك الله فازهد في الدنيا " فجعل الزهد سبباً للمحبة فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات ومفهومه أيضاً أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى وفي خبر من طريق أهل البيت " الزهد والورع يجولان في القلوب كل ليلة فإن صادفا قلباً فيه الإيمان والحياء أقاما فيه وإلا ارتحلا ". ولما قال حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مؤمن حقاً قال: " وما حقيقة إيمانك " قال: عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرها وذهبها وكأني بالجنة والنار وكأني بعرش ربي بارزاً فقال صلى الله عليه وسلم: " عرفت فالزم عبد نور الله قلبه بالإيمان " فانظر كيف بدأ في إظهار حقيقة الإيمان بعزوف النفس عن الدنيا وقرنه باليقين وكيف زكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: عبد نور الله قلبه بالإيمان. ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الشرح في قوله تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " وقيل له: ما هذا الشرح قال: " إن النور إذا دخل في القلب انشرح له الصدر وانفسح " قيل يا رسول الله وهل لذلك من علامة قال: " نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله " فانظر كيف جعل الزهد شرطاً للإسلام وهو التجافي عن دار الغرور. وقال صلى الله عليه وسلم: " استحيوا من الله حق الحياء " قالوا: إنا لنستحيي منها تعالى فقال: " ليس كذلك تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون " فبين أن ذلك يناقض الحياء من الله تعالى ولما قدم عليه بعض الوفود قالوا: إنا مؤمنون. قال: " وما علامة إيمانكم " فذكروا الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمواقع القضاء وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء فقال عليه الصلاة والسلام: " إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون ولا تبنوا ما لا تسكنون ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون " فجعل الزهد تكملة لإيمانهم. وقال جابر رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من جاء بلا إله إلا الله لا يخلط بها غيرها وجبت له الجنة " فقام إليه علي كرم الله وجهه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لا يخلط بها غيرها صفه لنا فسره لنا فقال: " حب الدنيا طلباً لها وإتباعاً لها وقوم يقولون قول الأنبياء ويعملون عمل الجبابرة فمن جاء بلا إله إلا الله ليس فيها شيء من هذا وجبت له الجنة ". وفي الخبر: " السخاء من اليقين ولا يدخل النار موقن والبخل من الشك ولا يدخل الجنة من شك ". وقال أيضاً: " السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار ". والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا والسخاء ثمرة الزهد. والثناء ثناء على المثمر لا محالة. وروي عن ابن المسيب عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من زهد في الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه فأنطق بها لسانه وعرفه داء الدنيا ودواءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام ". وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر في أصحابه بعشار من النوق حفل وهي الحوامل وكانت من أحب أموالهم إليهم وأنفسها عندهم لأنها تجمع الظهر واللحم واللبن والوبر ولعظمها في قلوبهم قال الله تعالى: " وإذا العشار عطلت " قال: فأعرض عنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وغض بصره فقيل له: يا رسول الله هذه أنفس أموالنا لم لا تنظر إليها فقال: " قد نهاني الله وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ألا تستطعم الله فيطعمك قالت: وبكيت لما رأيت به من الجوع فقال يا عائشة والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهباً لأجراها حيث شئت من الأرض ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض لأولي العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا والصبر عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " والله ما لي بد من طاعته وإني والله لأصبرن كما صبروا بجهدي ولا قوة إلا بالله ". وروي عن عمر رضي الله عنه: أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة رضي الله عنها: البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق ومر بصنعة الطعام تطعمه وتطعم من حضر فقال عمر: يا حفصة ألست تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته فقالت: بلى. قال: ناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة وناشدتك الله هل تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا كذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قربتم إليه يوماً طعاماً على مائدة فيها ارتفاع فشق ذلك عليه حتى تغير لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع طاقات فنام عليها فلما استيقظ قال: " منعتموني قيام الليلة بهذه العباءة اثنوها باثنتين كما كنتم تثنونها " وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوباً يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعت له امرأة من بني ظفر كساءين إزاراً وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره وقد عقد طرفيه إلى عنقه فصلى كذلك فما زال يقول حتى أبكاها وبكى عمر رضي الله عنه وانتحب حتى ظننا أن نفسه ستخرج. وفي بعض الروايات زيادة من قول عمر وهو أنه قال: كان لي صاحبان سلكا طريقاً فإن سلكت غير طريقهما سلك بي طريق غير طريقهما وإني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي أدرك معهما عيشهما الرغيد. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباءة وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم ". وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين كانت خضرة البقل ترى في بطنه من الهزال " فهذا ما كان قد اختاره أنبياء الله ورسله وهم أعرف خلق الله بالله وبطريق الفوز في الآخرة. وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " قال صلى الله عليه وسلم: " تباً للدنيا تباً للدينار والدرهم " فقلنا: يا رسول الله نهانا الله عن كنز الذهب والفضة فأي شيء ندخر فقال صلى الله عليه وسلم: " ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً أو زوجة صالحة تعينه على أمر آخرته ". وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث: هماً لا يفارق قلبه أبداً وفقراً لا يستغنى أبداً وحرصاً لا يشبع أبداً ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف وحتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته ". وقال المسيح صلى الله عليه وسلم: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وقيل له: يا نبي الله لو أمرتنا أن نبني بيتاً نعبد الله فيه قال: اذهبوا فابنوا بيتاً على الماء فقالوا: كيف يستقيم بنيان على الماء قال: وكيف تستقيم عبادة مع حب الدنيا. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: " إن ربي عز وجل عرض علي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت لا يا رب ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمشي وجبريل معه فصعد على الصفا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا جبريل والذي بعثك الحق ما أمسى لآل محمد كف سويق ولا سفة دقيق فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفظعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمر الله القيامة أن تقوم " قال: لا ولكن هذا إسرافيل عليه السلام قد نزل إليك حين سمع كلامك فأتاه إسرافيل فقال: إن الله عز وجل سمع ما ذكرت فبعثني بمفاتيح الأرض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة فعلت وإن شئت نبياً ملكاً وإن شئت نبياً عبداً. فأومأ إليه جبريل أن تواضع لله فقال: " نبياً عبداً " ثلاثاً. وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبد خيراً زهده في الدنيا ورغبه في الآخرة وبصره وقال صلى الله عليه وسلم لرجل: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ". وقال صلوات الله عليه: " من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن خاف من النار لها عن الشهوات ومن ترقب الموت ترك اللذات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ". ويروى عن نبينا وعن المسيح عليهما السلام: " أربع لا يدركن إلا بتعب: الصمت وهو أول العبادة والتواضع وكثرة الذكر وقلة الشيء ". وإيراد جميع الأخبار الواردة في مدح بغض الدنيا وذم حبها لا يمكن فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لصرف الناس عن الدنيا إلى الآخرة وإليه يرجع أكثر كلامهم مع الخلق وفيما أوردناه كفاية والله المستعان. وأما الآثار فقد جاء في الأثر: لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن العباد سخط الله عز وجل ما لم يسألوا ما نقص من دنياهم. وفي لفظ آخر: ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا: لا إله إلا الله قال الله تعالى: كذبتم لستم بها صادقين. وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: تابعنا الأعمال كلها فلم نر في أمر الآخرة أبلغ من زهد في الدنيا. وقال بعض الصحابة لصدر من التابعين: أنتم أكثر أعمالاً واجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خيراً منكم. قيل: ولم ذلك قال: كانوا أزهد في الدنيا منكم. وقال عمر رضي الله عنه: الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد. وقال بلال بن سعد: كفى به ذنباً أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها. وقال رجل لسفيان: أشتهي أن أرى عالماً زاهداً فقال: ويحك: تلك ضالة لا توجد. وقال وهب بن منبه: إن للجنة ثمانية أبواب فإذا صار أهل الجنة إليها جعل البوابون يقولون: وعزة ربنا لا يدخلها أحد قبل الزاهدين في الدنيا العاشقين للجنة. وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: إني لأشتهي من الله ثلاث خصال: أن أموت حين أموت وليس في ملكي درهم ولا يكون علي دين ولا علي عظمي لحم فأعطى ذلك كله. وروي أن بعض الخلفاء أرسل إلى الفقهاء بجوائز فقبلوها وأرسل إلى الفضيل بعشرة آلاف فلم يقبلها فقال له بنوه: قد قبل الفقهاء وأنت ترد على حالتك هذه فبكى الفضيل وقال: أتدرون ما مثلي ومثلكم كمثل قوم كانت لهم بقرة يحرثون عليها فلما هرمت ذبحوها لأجل أن ينتفعوا بجلدها كذلك أنتم أردتم ذبحي على كبر سني موتوا يا أهلي جوعاً خير لكم من أن تذبحوا فضيلاً!. وقال عبيد بن عميرة كان المسيح ابن مريم عليه السلام يلبس الشعر ويأكل الشجر وليس له ولد يموت ولا بيت يخرب ولا يدخر لغد أينما أدركه المساء نام. وقالت امرأة أبي حازم لأبي حازم: هذا الشتاء قد هجم علينا ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب! فقال لها أبو حازم: من هذا كله بد ولكن لا بد لنا من الموت ثم البعث ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنة أو النار. وقيل للحسن: لم لا تغسل ثيابك قال: الأمر أعجل من ذلك. وقال إبراهيم بن أدهم: قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب: الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبداً سرمداً. وقال بعض السلف: نعمة الله علينا فيما صرف عنا أكثر من نعمته فيما صرف إلينا وكأنه التفت إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه " فإذا فهم هذا علم أن النعمة في المنع المؤدي إلى الصحة أكبر منها في الإعطاء المؤدي إلى السقم. وكان الثوري يقول: الدنيا دار التواء لا دار استواء ودار ترح لا دار فرح من عرفها لم يفرح برخاء ولم يحزن على شقاء. وقال سهل: لا يخلص العمل لمتعبد حتى يفرغ من أربعة أشياء: الجوع والعري والفقر والذل. وقال الحسن البصري: أدركت أقواماً وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يأسفون على شيء منها أدبر ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب كان أحدهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يطوله ثوب ولم ينصب له قدر ولم يجعل بينه وبين الأرض شيئاً ولا أمر من في بيته بصنعة طعام قط فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا في شكرها وسألوا الله أن يقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها لهم فلم يزالوا على ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة رحمة الله عليهم ورضوانه. بالإضافة إلى نفسه وإلى المرغوب عنه وإلى المرغوب فيه
اعلم أن الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث: الدرجة الأولى وهي السفلى: منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة ولكنه يجاهدها ويكفها وهذا يسمى المتزهد وهو مبدأ الزهد في حق من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد والمتزهد يذيب أولاً نفسه ثم كيسه والزاهد أولاً يذيب كيسه ثم يذيب نفسه في الطاعات لا في الصبر على ما فارقه والمتزهد على خطر فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها في قليل أو كثير.
الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذي يترك درهماً لأجل درهمين فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه وهذا أيضاً نقصان.
الدرجة الثالثة وهي العليا: أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده إذ لا يرى أنه ترك شيئاً. أن عرف أن الدنيا لا شيء فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى نعيم الآخرة أخس من خزفة بالإضافة إلى جوهرة فهذا هو الكمال في الزهد. وسببه كمال المعرفة ومثل هذا الزهد آمن من خطر الالتفات إلى الدنيا كما أن تارك الخزفة بالجوهرة أمن من طلب الإقالة في البيع. قال أبو يزيد رحمه الله تعالى لأبي موسى عبد الرحيم: في أي شيء تتكلم قال: في الزهد قال: في أي شيء قال: في الدنيا فنفض يده وقال: ظننت أنه يتكلم في شيء والدنيا لا شيء إيش يزهد فيها. ومثل من ترك الدنيا للآخرة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب المعمورة بالمشاهدات والمكاشفات مثل من منعه من باب الملك كلب على بابه فألقى إليه لقمة من خبز فشغله بنفسه ودخل الباب ونال القرب عند الملك حتى نفذ أمره في جميع مملكته أفترى أنه يرى لنفسه يداً عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى كلبه في مقابلة ما قد ناله فالشيطان كلب على باب الله تعالى يمنع الناس من الدخول مع أن الباب مفتوح والحجاب مرفوع والدنيا كلقمة خبز إن أكلت فلذتها في حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع ثم يبقى ثفلها في المعدة ثم تنتهي إلى النتن والقذر ثم يحتاج بعد ذلك إلى إخراج ذلك الثقل فمن تركها لينال عز الملك كيف يلتفت إليها ونسبة الدنيا كلها أعني ما يسلم لكل شخص منها وإن عمر مائة سنة بالإضافة إلى نعيم الآخرة أقل من لقمة بالإضافة إلى ملك الدنيا إذ لا نسبة للمتناهي إلى ما لا نهاية له والدنيا متناهية على القرب ولو كانت تتمادى ألف ألف سنة عن كل كدر لكان لا نسبة لها إلى نعيم الأبد فكيف ومدة العمر قصيرة ولذات الدنيا مكدرة غير صافية فأي نسبة لها إلى نعيم الأبد فإذن لا يلتفت الزاهد إلى زهده إلا إذا التفت إلى ما زهد فيه ولا يلتفت إلى ما زهد فيه إلا لأنه يراه شيئاً معتداً به ولا يراه شيئاً معتداً به إلا لقصور معرفته. فهذا تفاوت درجات الزهد وكل درجة من هذه أيضاً لها درجات إذ تصبر المتزهد يختلف ويتفاوت أيضاً باختلاف قدر المشقة في الصبر وكذلك درجة المعجب بزهده بقدر التفاته إلى زهده. وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه أيضاً على ثلاث درجات: الدرجة السفلى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدي العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار إذ فيها: " إن الرجل ليوقف في الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشاً على عرقه لصدرت رواء " فهذا هو زهد الخائفين وكأنهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإن الخلاص من الألم يحصل بمجرد العدم. الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعودة في جنته من الحور والقصور وغيرها وهذا زهد الراجين فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا في وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له. الدرجة الثالثة وهي العليا: أن لا يكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها بل هو مستغرق الهم بالله تعالى وهو الذي أصبح وهمومه هم واحد وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى لأن من طلب غير الله فقد عبده وكل مطلوب معبود وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه وطلب غير الله من الشرك الخفي وهذا زهد المحبين وهم العارفون لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار فكذلك من عرف الله وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق. وأما انقسامه بالإضافة إلى المرغوب عنه فقد كثرت فيه الأقاويل ولعل المذكور فيه يزيد على مائة قول فلا نشتغل بنقل الأقاويل ولكن نشير إلى كلام محيط بالتفاصيل حتى يتضح أن أكثر ما ذكر فيه قاصر عن الإحاطة بالكل. فنقول: المرغوب عنه بالزهد له إجمال وتفصيل ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمل للجمل. أما الإجمال في الدرجة الأولى: فهو كل ما سوى الله فينبغي أن يزهد فيه حتى في نفسه أيضاً والإجمال في الدرجة الثانية: أن يزهد في كل للنفس فيها متعة وهذا تناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغيرها. وفي الدرجة الثالثة: أن يزهد في المال والجاه وأسبابهما إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النفس. وفي الدرجة الرابعة: أن يزهد في العلم والقدرة والدينار والدرهم والجاه إذ الأموال وإن كثرت أصنافها فيجمعها الدينار والدرهم والجاه وإن كثرت أسبابه فيرجع إلى العلم والقدرة وأعني به كل علم وقدرة ومقصودها ملك القلوب إذ معنى الجاه هو ملك القلوب والقدرة عليها كما أن معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها فإن جاوزت هذا التفصيل إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا فيكاد يخرج ما فيه الزهد عن الحصر. وقد ذكر الله تعالى في آية واحدة سبعة منها فقال: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة والدنيا " ثم رده في آية أخرى إلى خمسة فقال عز وجل: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد " ثم رده تعالى في موضع آخر إلى اثنين فقال تعالى: " وإنما الحياة الدنيا لعب ولهو " ثم رد الكل إلى واحد في موضع آخر فقال: " ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس في الدنيا فينبغي أن يكون الزهد فيه. وإذا فهمت طريق الإجمال والتفصيل عرفت أن البعض من هذه لا يخالف البعض وإنما يفارقه في الشرح والإجمال أخرى. فالحاصل أن الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلها ومهما رغب عن حظوظ النفس رغب عن البقاء في الدنيا فقصر أمله لا محالة لأنه إنما يريد البقاء ليتمتع ويريد التمتع الدائم بإرادة البقاء فإن من أراد شيئاً أراد دوامه ولا معنى لحب الحياة إلا حب دوام ما هو موجود أو ممكن في هذه الحياة فإذا رغب عنها لم يردها ولذلك لما كتب عليهم القتال " قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجلٍ قريب " فقال تعالى: " قل متاع الدنيا قليل " أي أما الزاهدون المحبون لله تعالى فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص وانتظروا إحدى الحسنيين وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة ويبادرون إليه مبادرة الظمآن إلى الماء البارد حرصاً على نصرة دين الله أو نيل رتبة الشهادة وكان من مات منهم على فراشه يتحسر على فوت الشهادة حتى إن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما احتضر للموت على فراشه كان يقول: كم غررت بروحي وهجمت على الصفوف طمعاً في الشهادة وأنا الآن أموت موت العجائز. فلما مات عد على جسده ثمانمائة ثقب من آثار الجراحات هكذا كان حال الصادقين في الإيمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وأما المنافقون ففروا من الزحف خوفاً من الموت فقيل لهم: " إن الموت الذين تفرون منه فإنه ملاقيكم " فإيثارهم البقاء على الشهادة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير فأولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين وأما المخلصون فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فلما رأوا أنهم تركوا تمتع عشرين سنة مثلاً أو ثلاثين سنة بتمتع الأبد استبشروا ببيعهم الذي بايعوا به فهذا بيان المزهود فيه. وإذا فهمت هذا علمت أن ما ذكره المتكلمون في حد الزهد لم يشيروا به إلا إلى بعض أقسامه فذكر كل واحد منهم ما رآه غالباً على نفسه أو على من كان يخاطبه فقال بشر رحمه الله وقال قاسم الجوعي: الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف فبقدر ما تملك من بطنك كذلك تملك من الزهد وهذا إشارة إلى الزهد في شهوة واحدة ولعمري هي أغلب الشهرات على الأكثر وهي المهيجة لأكثر الشهوات. وقال الفضيل: الزهد في الدنيا هو القناعة وهذا إشارة إلى المال خاصة. وقال الثوري: الزهد هو قصر الأمل وهو جامع لجميع الشهوات فإن من يميل إلى الشهوات فإن من يميل إلى الشهوات يحدث نفسه بالبقاء فيطول أمله ومن قصر أمله فكأنه رغب عن الشهوات كلها. وقال أويس: إذا خرج الزاهد يطلب ذهب الزهد عنه وما قصد بهذا ولكن جعل التوكل شرطاً في الزهد. وقال أويس أيضاً: الزهد هو ترك الطلب للمضمون وهو إشارة إلى الرزق. وقال أهل الحديث: حب الدنيا هو العمل بالرأي والمعقول والزهد إنما هو أتباع العلم ولزوم السنة وهذا إن أريد الرأي الفاسد والمعقول الذي يطلب به الجاه في الدنيا فهو صحيح ولكنه إشارة إلى بعض ما هو من فضول الشهوات فإن من العلوم ما لا فائدة فيه في الآخرة وقد طولوها حتى ينقضي عمر الإنسان في الاشتغال بواحد منها فشرط الزاهد أن يكون الفضول أول مرغوب عنه عنده وقال الحسن: الزاهد إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني فذهب إلى أن الزهد هو التواضع وهذا إشارة إلى نفي الجاه والعجب وهو بعض أقسام الزهد. وقال بعضهم: الزهد هو طلب الحلال وأين هذا ممن يقول: الزهد هو ترك الطلب كما قال أويس ولا شك في أنه أراد به ترك طلب الحلال وقد كان يوسف بن أسباط يقول: من صبر على الأذى وترك الشهوات وأكل الخبز من الحلال فقد أخذ بأصل الزهد. وفي الزهد أقاويل وراء ما نقلناه فلم نر في نقلها فائدة فإن من طلب كشف حقائق الأمور من أقاويل الناس رآها مختلفة فلا يستفيد إلا الحيرة وأما من انكشف له الحق في نفسه وأدركه بمشاهدة من قلبه لا بتلقف من سمعه فقد وثق بالحق واطلع على قصور من قصر لقصور بصيرته وعلى اقتصار من اقتصر مع كمال المعرفة لاقتصار حاجته وهؤلاء كلهم اقتصروا لا لقصور في البصيرة لكنهم ذكروا ما ذكروه عند الحاجة فلا جرم ذكروه بقدر الحاجة والحاجات تختلف فلا جرم الكلمات تختلف وقد يكون سبب الاقتصار الإخبار عن الحالة الراهنة التي هي مقام للعبد في نفسه والأحوال تختلف فلا جرم الأقوال المخبرة عنها تختلف وأما الحق في نفسه فلا يكون إلا واحداً ولا يتصور أن يختلف وإنما الجامع من هذه الأقاويل الكامل في نفسه وإن لم يكن فيه تفصيل: ما قاله أبو سليمان الداراني إذ قال: سمعنا في الزهد كلاماً كثيراً والزهد عندنا ترك كل شيء يشغلك عن الله عز وجل وقد فصل مرة وقال: من تزوج أو سافر في طلب المعيشة أو كتب الحديث فقد ركن إلى الدنيا فجعل جميع ذلك ضداً للزهد. وقد قرأ أبو سليمان قوله تعالى: " إلا من أتى الله بقلبٍ سليم " فقال: هو القلب الذي ليس فيه غير الله تعالى وقال: إنما زهدوا الدنيا لتفرغ قلوبهم من همومها للآخرة فهذا بيان انقسام الزهد بالإضافة إلى أصناف المزهود فيه فأما بالإضافة إلى أحكامه فينقسم إلى فرض ونفل وسلامة كما قاله إبراهيم بن أدهم فالفرض: هو الزهد في الحرام والنفل: هو الزهد في الحلال والسلامة: هو الزهد في الشبهات. وقد ذكرنا تفاصيل درجات الورع في كتاب الورع في كتاب الحلال والحرام وذلك من الزهد إذ قيل لمالك بن أنس: ما الزهد قال: التقوى وأما بالإضافة إلى خفايا ما يتركه فلا نهاية للزهد فيه إذ لا نهاية لما تتمتع به النفس في الخطرات واللحظات وسائر الحالات لا سيما خفايا الرياء فإن ذلك لا يطلع عليه إلا سماسرة العلماء بل الأحوال الظاهرة أيضاً درجات الزهد فيها لا تتناهى فمن أقصى درجاته زهد عيسى عليه السلام إذ توسد حجراً في نومه فقال له الشيطان: أما كنت تركت الدنيا فما الذي بدا لك قال: وما الذي تجدد قال: توسدك الحجر. أي تنعمت برفع رأسك عن الأرض في النوم فرمى الحجر وقال: خذه مع ما تركته لك. وروي عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه لبس المسوح حتى ثقب جلده تركاً للتنعم بلين اللباس واستراحة حس اللمس فسألته أمه أن يلبس مكان المسح جبة من صوف ففعل فأوحى الله تعالى إليه: يا يحيى آثرت على الدنيا فبكى ونزع الصوف وعاد إلى ما كان عليه. وقال أحمد رحمه الله تعالى: الزهد زهد أويس بلغ من العري أن جلس قوصرة. وجلس عيسى عليه السلام في ظل حائط إنسان فأقامه صاحب الحائط فقال: ما أقمتني أنت إنما أقامني الذي لم يرض لي أن أتنعم بظل الحائط. فإذن درجات الزهد ظاهراً وباطناً لا حصر لها وأقل درجاته: الزهد في كل شبهة ومحظور. وقال قوم: الزهد هو الزهد في الحلال لا في الشبهة والمحظور فليس ذلك من درجاته في شيء ثم رأوا أنه لم يبق حلال في أموال الدنيا فلا يتصور الزهد الآن. فإن قلت: مهما كان الصحيح هو أن الزهد ترك ما سوى الله فكيف يتصور ذلك مع الأكل والشرب واللبس ومخالطة الناس ومكالمتهم وكل ذلك اشتغال بما سوى الله تعالى فاعلم أن معنى الانصراف عن الدنيا إلى الله تعالى هو الإقبال بكل القلب عليه ذكراً وفكراً ولا يتصور ذلك إلا مع البقاء ولا بقاء إلا بضروريات النفس فمهما اقتصرت من الدنيا على دفع المهلكات عن البدن وكان غرضك الاستعانة بالبدن على العبادة لم تكن مشتغلاً بغير الله فإن ما لا يتوصل إلى الشيء إلا به فهو منه فالمشتغل بعلف الناقة وبسقيها في طريق الحج ليس معرضاً عن الحج ولكن ينبغي أن يكون بدنك في طريق الله مثل ناقتك في طريق الحج ولا غرض لك في تنعم ناقتك باللذات بل غرضك مقصور على دفع المهلكات عنها حتى تسير بك إلى مقصدك فكذلك ينبغي أن تكون في صيانة بدنك عن الجوع والعطش المهلك بالأكل والشرب وعن الحر والبرد المهلك باللباس والمسكن فتقصر على قدر الضرورة ولا تقصد التلذذ بل التقوى على طاعة الله تعالى فذلك لا يناقض الزهد بل هو شرط الزهد وإن قلت: فلا بد وأن أتلذذ بالأكل عند الجوع فاعلم أن ذلك لا يضرك إذا لم يكن قصدك التلذذ فإن شارب الماء البارد قد يستلذ الشرب ويرجع حاصله إلى زوال ألم العطش ومن يقضي حاجته قد يستريح بذلك ولكن لا يكون ذلك مقصوداً عنده ومطلوباً بالقصد فلا يكون منصرفاً إليه فالإنسان قد يستريح في قيام الليل بتنسم الأسحار وصوت الأطيار ولكن إذا لم يقصد طلب موضع لهذه الاستراحة فما يصيبه من ذلك بغير قصد لا يضره ولقد كان في الخائفين من طلب موضعاً لا يصيبه فيه نسيم الأسحار خيفة من الاستراحة به وأنس القلب معه فيكون فيه أنس بالدنيا ونقصان في الأنس بالله بقدر وقوع الأنس بغير الله ولذلك كان داود الطائي له جب مكشوف فيه ماؤه فكان لا يرفعه من الشمس ويشرب الماء الحار ويقول: من وجد لذة الماء البارد شق عليه مفارقة الدنيا فهذه مخاوف المحتاطين والحزم في جميع ذلك الاحتياط فإنه وإن كان شاقاً فمدته قريبة والاحتماء مدة يسيرة للتنعم على التأييد لا يثقل على أهل المعرفة القاهرين لأنفسهم بسياسة الشرع المعتصمين بعروة اليقين في معرفة المضادة التي بين الدنيا والدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين. اعلم أن ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول وإلى مهم فالفضول كالخيل المسومة مثلاً إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفه بركوبها وهو قادر على المشي والمهم كالأكل والشرب ولسنا نقدر على تفصيل أصناف الفضول فإن ذلك لا ينحصر وإنما ينحصر المهم الضروري والمهم أيضاً يتطرق إليه الفضول في مقداره وجنسه وأوقاته فلا بد من بيان وجه الزهد فيه والمهمات ستة أمور: المطعم والملبس والمسكن وأثاثه والمنكح والمال. والجاه يطلب لأغراض. وهذه الستة من جملتها وقد ذكرنا معنى الجاه وسبب حب الخلق وكيفية الاحتراز منه في كتاب الرياء من ربع المهلكات ونحن الآن نقتصر على بيان هذه المهمات الستة: الأول المطعم: ولا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه ولكن له طول وعرض فلا بد من قبض طوله وعرضه حتى يتم به الزهد فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر فإن من يملك طعام يومه فلا يقنع به وأما عرضه ففي مقدار الطعام وجنسه ووقت تناوله أما طوله فلا يقصر إلا بقصر الأمل وأقل درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدة الجوع وخوف المرض ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدخر من غدائه لعشائه وهذه هي الدرجة العليا. الدرجة الثانية: أن يدخر لشهر أو أربعين يوماً. الدرجة الثالثة: أن يدخر لسنة فقط وهذه رتبة ضعفاء الزهاد ومن ادخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهداً محال لأن من أمل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جداً فلا يتم منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدي الناس كداود الطائي فإنه ورث عشرين ديناراً فأمسكها وأنفقها في عشرين سنة فهذا لا يضاد أصل الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد وأما عرضه فبالإضافة إلى المقدار وأقل درجاتهفي اليوم والليلة نصف رطل وأوسطه رطل وأعلاه مد واحد وهو ما قدره الله تعالى في إطعام المسكين في الكفارة وما وراء ذلك فهو من اتساع البطن والاشتغال به ومن لم يقدر على الاقتصار على مد لم يكن له من الزهد في البطن نصيب وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله كل ما يقوت ولو الخبز من النخالة وأوسطه خبز الشعير والذرة وأعلاه خبز البر غير منخول فإذا ميز من النخالة وصار حواري فقد دخل في التنعم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلاً عن أوائله. وأما الأدم: فأقله الملح أو البقل والخل وأوسطه الزيت أو يسير من الأدهان أي دهن كان وأعلاه اللحم أي لحم كان وذلك في الأسبوع مرة أو مرتين فإن صار دائماً أو أكثر من مرتين في الأسبوع خرج عن آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهداً في البطن أصلاً وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرة وهو أن يكون صائماً وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل ويأكل ليلة ولا يشرب وأعلاه أن ينتهي إلى أن يطوي ثلاثة أيام أو أسبوعاً وما زاد عليه وقد ذكرنا طريق تقليل الطعام وكسر شرهه في ربع المهلكات ولينظر إلى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم الأدم. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كانت تأتي علينا أربعون ليلة وما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مصباح ولا نار. قيل لهم: فبم كنتم تعيشون قالت: بالأسودين التمر والماء. وهذا ترك اللحم والمرقة والأدم. وقال الحسن: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يركب الحمار ويلبس الصوف وينتعل المخصوف ويلعق أصابعه ويأكل على الأرض. ويقول: " إنما أنا عبد آكل كما تأكل العبيد وأجلس كما تجلس العبيد ". وقال المسيح عليه السلام: بحق أقول لكم إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم على المزابل مع الكلاب كثير. وقال الفضيل: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة ثلاثة أيام من خبز البر. وكان المسيح صلى الله عليه وسلم يقول: يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البري وخبز الشعير وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره. وقد ذكرنا سيرة الأنبياء والسلف في المطعم والمشرب في ربع المهلكات فلا نعيده. ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أهل قباء أتوه بشربة من لبن مشوبة بعسل فوضع القدح من يده وقال: " أما إني لست أحرمه ولكن أتركه تواضعاً لله تعالى ". وأتي عمر رضي الله عنه بشربة من ماء بارد وعسل في يوم صائف فقال: اعزلوا عني حسابها. وقد قال يحيى بن معاذ الرازي: الزاهد الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه حيث أدرك الدنيا سجنه والقبر مضجعه والخلو مجلسه والاعتبار فكرته والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع إدامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة مبلغه إن شاء الله تعالى. المهم الثاني الملبس: وأقل درجته ما يدفع الحر والبرد ويستر العورة. وهو كساء يتغطى به وأوسطه قميص وقلنسوة ونعلان وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل. وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوز حد الزهد. وشرط الزاهد: أن لا يكون له ثوب يلبسه إذا غسل ثوبه. بل يلزمه القعود في البيت. فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع ألوان الزهد من حيث المقدار. أما الجنس فأقله المسوح الخشنة وأوسطه الصوف الخشن وأعلاه القطن الغليظ. وأما من حيث الوقت فأقصاه ما يستر سنة وأقله ما يبقى يوماً حتى رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر وإن كان يتسارع الجفاف إليه وأوسطه ما يتماسك عليه شهراً وما يقاربه فطلب ما يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل وهو مضاد للزهد وإلا إذا كان المطلوب خشونته ثم قد يتبع ذلك قوته ودوامه فمن وجد زيادة من ذلك فينبغي أن يتصدق به فإن أمسكه لم يكن زاهداً بل كان محباً للدنيا ولينظر فيه إلى أحوال الأنبياء والصحابة كيف تركوا الملابس: قال أبو بردة: أخرجت لنا عائشة رضي الله تعالى عنها كساءً ملبداً وإزاراً غليظاً فقالت: وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس ". وقال عمرو بن الأسود العنسي: لا ألبس مشهوراً أبداً ولا أنام بليل أبداً على دثار أبداً ولا أركب على مأثور أبداً ولا أملأ جوفي من طعام أبداً. فقال عمر: من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى عمرو بن الأسود. وفي الخبر: " ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيباً ". واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً بأربعة دراهم. وكانت قيمة ثوبيه عشرةوإزاره أربعة أذرع ونصفاًواشترى سراويل بثلاثة دراهم. وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوفوكانت تسمى حلة لأنها ثوبان من جنس واحد وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليين من هذه الغلاظ. وفي الخبر: كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قميص زيات. ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً واحداً ثوباً سيراء من سندس قيمته مائتا درهمفكان أصحابه يلمسونه ويقولون: يا رسول الله أنزل عليك من الجنة تعجباً - وكان أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية فأراد أن يكرمه بلبسه - ثم نزعه وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به ثم حرم لبس الحرير والديباج. وكأنه إنما لبسه أولاً تأكيداً للتحريم كما لبس خاتماً من ذهب يوماً ثم نزعهفحرم لبسه على الرجال وكما قال لعائشة في شأن بريرة: " اشترطي لأهلها الولاء " فلما اشترطته صعد عليه السلام المنبر فحرمه وكما أباح المتعة ثلاثاً ثم حرمها لتأكيد أمر النكاح. وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها علم فلما سلم قال: " شغلني النظر إلى هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيتهيعني كسائه. فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم وكان شراك نعله قد أخلق فأبدل بسير جديد فصلى فيه فلما سلم قال: " أعيدوا الشراك الخلق وانزعوا هذا الجديد فإني نظرت إليه في الصلاة ". ولبس خاتماً من ذهب ونظر إليه على المنبر نظرة فرمي به فقال: " شغلني هذا عنكم نظرة إليه ونظرة إليكم ". وكان صلى الله عليه وسلم قد احتذى مرة نعلين جديدين فأعجبه حسنهما فخر ساجداً وقال: " أعجبني حسنهما فتواضعت لربي خشية أن يمقتني ". ثم خرج بهما فدفعهما إلى أول مسكين رآه. وعن سنان بن سعد قال: حيكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من صوف أنمار وجعلت حاشيتها سوداء فلما لبسها قال: " انظروا ما أحسنها! ما ألينها! " قال فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله هبها لي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً لم يبخل به قال: فدفعها إليه وأمر أن يحاك له واحدة أخرى فمات صلى الله عليه وسلم وهي في المحاكة. وعن جابر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله تعالى عنها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل فلما نظر إليها بكى وقال: " يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لنعيم الأبد " فأنزل الله عليه: " ولسوف يعطيك ربك فترضى ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إن من خيار أمتي فيما أنبأني الملأ الأعلى قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمه الله تعالى ويبكون سراً من خوف عذابه مؤنتهم على الناس خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان أجسامهم في الأرض وأفئدتهم عند العرش " فهذه كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الملابس وقد أوصى أمته عامة بإتباعه إذا قال: " من أحبني فليستن بسنتي ". وقال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ". وقال تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ". وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها خاصة وقال: " إن أردت وعد على قميص عمر رضي الله عنه اثنتا عشرة رقعة بعضها من أدم. واشترى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثوباً بثلاثة دراهم ولبسه وهو في الخلافة وقطع كميه من الرسغين وقال: الحمد لله الذي كساني هذا من رياشه. وقال الثوري وغيره: البس من الثياب ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند الجهال وكان يقول: إن الفقير ليمر بي وأنا أصلي فأدعه يجوز ويمر بي واحد من أبناء الدنيا وعليه هذه البزة فأمقته ولا أدعه يجوز. وقال بعضهم: قومت ثوبي سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانق. وقال ابن شبرمة: خير ثيابي ما خدمني وشرها ما خدمته. وقال بعض السلف: البس من الثياب ما يخلطك بالسوقة ولا تلبس منها ما يشهرك فينظر إليك. وقال أبو سليمان الداراني: الثياب ثلاثة: ثوب لله وهو ما يستر العورة وثوب للنفس وهو ما يطلب لينه وثوب للناس وهو ما يطلب جوهره وحسنه. وقال بعضهم: من رق ثوبه رق دينه. وكان جمهور العلماء من التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين إلى الثلاثين درهماً وكان الخواص لا وقال بعض السلف: أول النسك الزي. وفي الخبر: " البذاذة من الإيمان ". وفي الخبر: " من ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعاً لله تعالى وابتغاء لوجهه كان حقاً على الله أن يدخر له من عبقري الجنة في تخات الياقوت ". وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: قل لأوليائي لا يلبسوا ملابس أعدائي ولا يدخلوا مداخل أعدائي كما هم أعدائي. ونظر رافع بن خديج إلى بشر بن مروان على منبر الكوفة وهو يعظ فقال: انظروا إلى أميركم يعظ الناس وعليه ثياب الفساق - وكان عليه ثياب رقاق - وجاء عبد الله بن عامر بن ربيعة إلى أبي ذر في بزته فجعل يتكلم في الزهد فوضع أبي ذر راحته على فيه وجعل يضرط به فغضب ابن عامر فشكاه إلى عمر فقال: أنت صنعت بنفسك تتكلم في الزهد بين يديه بهذه البزة. وقال علي كرم الله وجهه: إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغني ولا يزري بالفقير فقره. ولما عوتب في خشونة لباسه قال: هو أقرب إلى التواضع وأجدر أن يقتدي به المسلم. ونهى صلى الله عليه وسلم عن التنعم وقال: " إن لله تعالى عباداً ليسوا بالمتنعمين ". ورؤي فضالة بن عبيد وهو والي مصر أشعث حافياً فقيل له: أنت الأمير وتفعل هذا فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء وأمرنا أن نحتفي أحياناً. وقال علي لعمر رضي الله عنهما: إن أردت أن تلحق بصاحبيك فارفع القميص ونكس الإزار واخصف النعل وكل دون الشبع. وقال عمر: اخشوشنوا وإياكم وزي العجم كسرى وقيصر. وقال علي كرم الله وجهه: من تزيا بزي قوم فهو منهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون في الكلام ". وقال صلى الله عليه وسلم: " أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار ولا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً ". وقال أبو سليمان الداراني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يلبس الشعر من أمتي إلا مراء أو أحمق ". وقال الأوزاعي: لباس الصوف في السفر سنة وفي الحضر بدعة. ودخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم وعليه جبة صوف فقال له قتيبة: ما دعاك إلى مدرعة الصوف فسكت فقال: أكلمك ولا تجيبني! فقال: أكره أن أقول زهداً فأزكي نفسي أو فقراً فأشكو ربي. وقال أبو سليمان: لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً أوحى إليه: أن وار عورتك من الأرض وكان لا يتخذ من كل شيء إلا واحداً سوى السراويل فإنه كان يتخذ سراويلين! فإذا غسل أحدهما لبس الآخر حتى لا يأتي عليه حال إلا وعورته مستورة وقيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: ما لك لا تلبس الجيد من الثياب فقال: وما للعبد والثوب الحسن فإذا عتق فله والله ثياب لا تبلى أبداً. ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان له جبة شعر وكساء شعر يلبسهما من الليل إذا قام يصلي. وقال الحسن لفرقد السبخي: تحسب أن لك فضلاً على الناس بكسائك بلغني أن أكثر أصحاب الأكيسة نفاقاً. وقال يحيى بن معين: أرأيت أبا معاوية الأسود وهو يلتقط الخرق من المزابل ويغسلها ويلفقها ويلبسها فقلت: إنك تكسى خيراً من هذا! فقال: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة فجعل يحيى بن معين يحدث بها ويبكي. المهم الثالث: المسكن وللزهد فيه أيضاً ثلاث درجات: أعلاها أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه فيقنع بزاويا المساجد كأصحاب الصفة. وأوسطها: أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه مثل كوخ مبني من سعف أو خص أو ما يشبهه وأدناها أن يطلب حجرة مبنية إما بشراء أو إجارة فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم يكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكلية حد للزهد في المسكن فاختلاف جنس البناء بأن يكون من الجص أو القصب أو بالطين أو بالآجر واختلاف قدره بالسعة والضيق واختلاف طوله بالإضافة إلى الأوقات بأن يكون مملوكاً أو مستأجراً أو مستعاراً والزهد مدخل في جميع ذلك. وبالجملة كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الضرورة وقدر الضرورة من الدنيا آلة الدين ووسيلته وما جاوز ذلك فهو مضاد للدين والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى وأقل الدرجات فيه معلوم وما زاد عليه فهو الفضول والفضول كله من الدنيا وطالب الفضول والساعي له بعيد من الزهد جداً وقد قيل: أول شيء ظهر من طول الأمل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم التدريز والتشييد يعني بالتدريز: كف دروز الثياب فإنها كانت تشل شلاً والتشييد: هو البنيان بالجص والآجر وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن يهدم علية كان قد علا بها. ومر عليه السلام بجنبذة معلاة فقال: " لمن هذه " قالوا: لفلان فلما جاءه الرجل أعرض عنه فلم يكن يقبل عليه كما كان فسأل الرجل أصحابه عن تغيير وجهه صلى الله عليه وسلم فأخبر فذهب فهدمها فمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالموضع فلم يرها. فأخبر بأنه هدمها فدعا له بخير. وقال الحسن: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبد شراً أهلك ماله في الماء والطين ". وقال عبد الله بن عمر: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصاً فقال: " ما هذا " قلنا خص لنا قد وهى فقال: " أرى الأمر أعجل من ذلك ". واتخذ نوحاً عليه السلام بيتاً من قصب. فقيل له: لو بنيت فقال: هذا كثير لمن يموت. وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقيل له: لو أصلحته فقال: كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم القيامة ". وفي قوله تعالى: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً " إنه الرياسة والتطاول في البنيان. وقال صلى الله عليه وسلم: " كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكن من حر أو برد ". وقال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شكا إليه ضيق منزله: " اتسع في السماء " أي في الجنة. ونظر عمر رضي الله عنه في طريق الشام إلى صرح قد بني بجص وآجر فكبر وقال: ما كنت أظن أن يكون في هذه الأمة من يبني بنيان هامان لفرعون يعني قول فرعون " فأوقد لي يا هامان على الطين " يعني به الآجر ويقال: إن فرعون هو أول من بني له بالجص والآجر وأول من عمله هامان ثم تبعهما الجبابرة وهذا هو الزخرف. ورأى بعض السلف جامعاً في بعض الأمصار فقال: أدركت هذا المسجد مبنياً من الجريد والسعف ثم رأيته من رهص ثم رأيته الآن مبنياً باللبن فكان أصحاب السعف خيراً من أصحاب الرهص خير من أصحاب اللبن. وكان من السلف من يبني داره مراراً في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله وزهده في إحكام البنيان وكان منهم من إذا حج أو غزا نزع بيته أو وهبه لجيرانه فإذا رجع أعاده وكانت بيوتهم من الحشيش والجلود وهي عادة العرب الآن ببلاد اليمن وكان ارتفاع بناء السقف قامة وبسطة. وقال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت بيدي إلى السقف. وقال عمرو بن دينار: إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك: إلى أين يا أفسق الفاسقين. وقد نهى سفيان عن النظر إلى بناء مشيد وقال: لولا نظر الناس لما شيدوا فالنظر إليه معين عليه. وقال الفضيل: إني لم أعجب ممن بنى وترك ولكن أعجب ممن نظر ولم يعتبر. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يأتي قوم يرفعون الطين ويضعون الدين ويستعملون البرازين. يصلون إلى قبلتكم ويموتون على غير دينكم.
المهم الرابع: أثاث البيت وللزهد فيه أيضاً درجات: أعلاها حال عيسى المسيح صلوات الله عليه وسلامه وعلى كبد عبد مصطفى إذ كان لا يصحبه إلا مشط وكوز فرأى إنساناً يمشط لحيته بأصابعه فرمى بالمشط ورأى آخر يشرب من النهر بكفيه فرمى الكوز وهذا حكم كل أثاث فإنه إنما يراد المقصود فإذا استغنى عنه فهو وبال في الدنيا والآخرة وما لا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقل الدرجات وهو الخزف في كل ما يكفي فيه الخزف ولا يبالي بأن يكون مكسور الطرف إذا كان المقصود يحصل به. وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح في نفسه ولكن يستعمل الآلة الواحدة في مقاصد كالذي معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها وكان السلف يستحبون استعمال آلة واحدة في أشياء للتخفيف. وأدناها أن يكون له بعدد كل حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس فإن زاد في العدد أو في نفاسة الجنس خرج عن جميع أبواب الزهد وركن إلى طلب الفضول ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه وسادة من أدم حشوها ليف. وقال الفضيل: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عباءة مثنية ووسادة من أدم حشوها ليف. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمول بشريط فجلس فرأى أثر الشريط في جنبه عليه السلام فدمعت عينا عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما الذي أبكاك يا ابن الخطاب " قال: ذكرت كسرى وقيصر وما هما فيه من الملك وذكرتك وأنت حبيب الله وصفيه ورسوله نائم على سرير مرمول بالشريط فقال صلى الله عليه وسلم: " أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " قال: بلى يا رسول الله قال: " فذلك كذلك ". ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر ما أرى في بيتك متاعاً ولا غير ذلك من الأثاث فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه مصالح متاعنا فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت ههنا فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه. ولما قدم عمير بن سعيد أمير حمص على عمر رضي الله عنهما قال له: ما معك من الدنيا فقال: معي عصاي أتوكأ بها وأقتل بها حية إن لقيتها ومعي جرابي أحمل فيه طعامي ومعي قصعتي آكل فيها رأسي وثوبي ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي وطهوري للصلاة فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معي فقال عمر: صدقت رحمك الله. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر فدخل على فاطمة رضي الله عنها فرأى على باب منزلها ستر وفي يديها قلبين من فضة فرجع فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي فأخبرته برجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أبو رافع فقال: " من أجل الستر والسوارين " فأرسلت بهما بلالاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: قد تصدقت بهما فضعهما حيث ترى فقال: " اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصفة " فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدق بهما عليهم فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فقال: " بأبي أنت قد أحسنت ". ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عائشة ستراً فهتكه وقال: " كلما رأيته ذكرت الدنيا أرسلي به إلى آل فلان ". وفرشت له عائشة ذات ليلة فراشاً جديداً وقد كان صلى الله عليه وسلم ينام على عباءة مثنية فما زال يتقلب ليلته فلما أصبح قال لها: " أعيدي العباءة الخلقة ونحي هذا الفراش عني قد أسهرني الليلة ". وكذلك أتته دنانير خمسة أو ستة ليلاً فبيتها فسهر ليلته حتى أخرجها من آخر الليل. قالت عائشة رضي الله عنها: فنام حينئذ حتى سمعت غطيطه ثم قال: " ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده ". وقال الحسن: أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوباً قط: كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه. المهم الخامس: المنكح وقد قال قائلون: لا معنى للزهد في أصل النكاح ولا في كثرته وإليه ذهب سهل بن عبد الله وقال: قد حبب إلى سيد الزاهدين النساء فكيف تزهد فيهن ووافقه على هذا القول ابن عيينة وقال: كان أزهد الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان له أربع نسوة وبضع عشرة سرية. والصحيح ما قاله أبو سليمان الداراني رحمه الله إذ قال: كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم والمرأة قد تكون شاغلاً عن الله. وكشف الحق فيه: أنه قد تكون العزوبة أفضل في بعض الأحوال كما سبق في كتاب النكاح فيكون ترك النكاح من الزهد وحيث يكون النكاح أفضل لدفع الشهوة الغالبة فهو واجب فكيف يكون تركه من الزهد وإن لم يكن عليه آفة في تركه ولا فعله ولكن ترك النكاح احترازاً عن ميل القلب إليهن والأنس بهن بحيث يشتغل عن ذكر الله فترك ذلك من الزهد فإن علم أن المرأة لا تشغله عن ذكر الله ولكن ترك ذلك احترازاً من لذة النظر والمضاجعة والمواقعة فليس هذا من الزهد أصلاً فإن الولد مقصود لبقاء نسله وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من القربات واللذة التي تلحق الإنسان فيما هو من ضرورة الوجود لا تضره إذا لم تكن هي المقصد والمطلب وهذا كمن ترك أكل الخبز وشرب الماء احترازاً من لذة الأكل والشرب وليس ذلك من الزهد في شيء لأن في ترك ذلك فوات بدنه فكذلك في ترك النكاح انقطاع نسله فلا يجوز أن يترك النكاح زهداً في لذته من غير خوف آفة أخرى وهذا ما عناه سهل لا محالة ولأجله نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا ثبت هذا فمن حاله حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا يشغله كثرة النسوان ولا اشتغال القلب بإصلاحهن والإنفاق عليهنفلا معنى لزهده فيهن حذراً لذة الوقاع والنظر ولكن أنى يتصور ذلك لغير الأنبياء والأولياء فأكثر الناس يشغلهم كثرة النسوان فينبغي أن يترك الأصل إن كان يشغله وإن لم يشغله وكان يخاف من أن تشغله الكثرة منهن أو جمال المرأة فلينكح واحدة غير جميلة وليراع قلبه في ذلك. قال أبو سليمان: الزهد في النساء: أن يختار المرأة الدون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والشريفة. وقال الجنيد رحمه الله: أحب للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بثلاث وإلا تغير حاله: التكسب وطلب الحديث والتزوج. وقال: أحب للصوفي أن لا يكتب ولا يقرأ لأنه أجمع لهمه فإذا ظهر أن لذة النكاح كلذة الأكل فما شغل عن الله فهو محذور فيهما جميعاً. المهم السادس: ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه: أما الجاه فمعناه ملك القلوب بطلب محل فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال وكل من لا يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة في قلب خادمه لأنه إن لم يكن له عنده محل وقدر لم يقم بخدمته وقيام القدر والمحل في القلوب هو الجاه وهذا له أول قريب ولكن يتمادى به إلى هاوية لا عمق لها ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضر أو لخلاص من ظلم فأما النفع فيغني عنه المال فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة وأما دفع الضر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيران يظلمونه ولا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في قلوبهم أو محل له عند السلطان وقدر الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك بل حق الزاهد أن لا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلاً فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار فكيف بين المسلمين فأما التوهمات والتقديرات التي تحوج إلى زيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة إذ من طلب الجاه أيضاً لم يخل عن أذى في بعض الأحوال فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه فإذن طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه أصلاً واليسير منه داع إلى الكثير وضراوته أشد من ضراوة الخمر فليحترز من قليله وكثيره وأما المال فهو ضروري في المعيشة أعني القليل منه فإن كان كسوباً فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغي أن يترك الكسب كان بعضهم إذا اكتسب حبتين رفع سفطه وقام هذا شرط الزهد فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد وأقويائهم جميعاً وإن كانت له ضيعة ولم يكن له قوة يقين في التوكل فأمسك منها مقدار ما يكفي ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل عن كفاية سنته ولكن يكون من ضعفاء الزهاد فإن شرط التوكل في الزهد كما شرطه أويس القرني رحمه الله فلا يكون هذا من الزهاد. وقولنا: إنه خرج من حد الزهاد نعني به أن ما وعد للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات المحمودة لا يناله وإلا فاسم الزهد قد لا يفارقه بالإضافة إلى ما زهد فيه من الفضول والكثرة وأمر المنفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل وقد قال أبو سليمان: لا ينبغي أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه فإن أجابوا وإلا تركهم وفعل بنفسه ما شاء: معناه أن التضييق المشروط على الزاهد يخصه ولا يلزمه كل ذلك في عياله نعم لا ينبغي أن يجيبهم أيضاً فيما يخرج عن حد الاعتدال وليتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انصرف من بيت فاطمة رضوان الله عليها بسبب ستر وقلبين لأن ذلك من الزينة لا من الحاجة فإذاً ما يضطر الإنسان إليه من جاه ومال ليس بمحذور بل الزائد على الحاجة سم قاتل والمقتصر على الضرورة دواء نافع وما بينهما درجات متشابهة فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سماً قاتلاً فهو مضر وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعاً لكنه قليل الضرر والسم محظور شربه والدواء فرض تناوله وما بينهما مشتبه أمره فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ورد نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرق الناجية لا محالة والمقتصر على قدر الضرورة والمهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين والشرط من جملة المشروط. ويدل عليه ما روي أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئاً فلم يقرضه فرجع مفهوماً فأوحى الله تعالى إليه: لو سألت خليلك لأعطاك فقال: يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئاً فأوحى الله تعالى إليه: ليس الحاجة من الدنيا. فإذن قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال في الآخرة وهو في الدنيا أيضاً كذلك يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة وجمعه وحفظه واحتمال الذل فيه وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلونه وربما يكونون أعداء له وقد يستعينون به على المعصية فيكون هو معيناً لهم عليها ولذلك شبه جامع الدنيا ومتبع الشهوات بدود القز لا يزال ينسج على نفسه حياً ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصاً فيموت ويهلك بسبب عمله الذي عمله بنفسه فكذلك كل من اتبع شهوات الدنيا فإنما يحكم على قلبه بسلاسل تقيده بما يشتهيه حتى تتظاهر عليه السلاسل فيقيده المال والجاه والأهل والولد وشماتة الأعداء ومراءاة الأصدقاء وسائر حظوظ الدنيا فلو خطر له أنه قد أخطأ فيه فيقصد الخروج من الدنيا لم يقدر عليه ورأى قلبه مقيداً بسلاسل وأغلال لا يقدر على قطعها ولو ترك محبوباً من محابه باختياره كاد أن يكون قاتلاً لنفسه وساعياً في هلاكه إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين جميعها دفعة واحدة فتبقى السلاسل في قلبه معلقة بالدنيا التي فاتته وخلفها فهي تجاذبه إلى الدنيا ومخالب ملك الموت قد علقت بعروق قلبه تجذبه إلى الآخرة فيكون أهون أحواله عند الموت أن يكون كشخص ينشر بالمنشار ويفصل أحد جانبيه عن الآخر بالمجاذبة من الجانبين والذي ينشر بالمنشار إنما ينزل المؤلم ببدنه بذلك بطريق السراية من حيث أثره فما ظنك بألم يتمكن أولاً من صميم القلب مخصوصاً به لا بطريق السراية إليه من غيره فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرة فوت النزول في أعلى عليين وجوار رب العالمين فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله تعالى وعند الحجاب تتسلط عليه نار جهنم إذ النار غير مسلطة إلا على محجوب. قال الله تعالى: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم " فرتب العذاب بالنار على ألم الحجاب وألم الحجاب كاف من غير علاوة النار فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه فنسأل الله تعالى أن يقرر في أسماعنا ما نفث في روع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قيل له: أحبب من أحببت فإنك مفارقه. وفي معنى ما ذكرناه من المثال قول الشاعر: كدود كدود القز ينسج دائماً ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه ولما انكشف لأولياء الله تعالى أن العبد مهلك نفسه بأعماله واتباعه هوى نفسه إهلاك دود القز نفسه: رفضوا الدنيا بالكلية حتى قال الحسن: رأيت سبعين بدرياً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم. وفي لفظ آخر: كانوا بالبلاء أشد قرحاً منكم بالخصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين ولو رأوا خياركم قالوا ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. وكان أحدهم يعرض لهم المال الحلال فلا يأخذه ويقول: أخاف أن يفسد على قلبي فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده والذين أمات حب الدنيا قلوبهم فقد أخبر الله عنهم إذ قال تعالى: " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ". وقال عز وجل: " ولا تطمع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ". وقال تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " فأحال ذلك كله على الغفلة وعدم العلم ولذلك قال رجل لعيسى عليه السلام: احملني معك في سياحتك فقال: أخرج مالك والحقني فقال: لا أستطيع فقال عيسى عليه السلام: بعجب يدخل الغني الجنة - أو قال بشدة. وقال بعضهم: ما من يوم ذر شارقه إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات ملكان بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق: يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر ويقول الآخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً. ويقول اللذان بالمغرب أحدهما: لدوا للموت وابنوا للخراب ويقول الآخر: كلوا وتمتعوا لطول الحساب.
|